الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
قوله تعالى: {وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ}..جاء ذكر إسماعيل، بعد ذكر أيوب، لأن كلا منهما قد ابتلى ابتلاء عظيما من اللّه، وكلّا منهما كان من الصابرين على ما ابتلى به.فأيوب، قد كان في عافية، وفى نعمة ظاهرة، ثم ابتلاء اللّه في نفسه وماله وولده جميعا.. فصبر راضيا بحكم اللّه فيه، مطمئنا إلى مواقع الرحمة منه..وإسماعيل.. قد رأى أبوه في المنام أنه يذبحه بأمر من ربه، فلما أخبره بأمر اللّه، وطلب إليه رأيه، لم يتردد في الجواب، وقال: {يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ}.. وقدّم أيوب على إسماعيل، مع أنه فرع من إبراهيم، وإسماعيل أصل.. لأن أيوب طالت محنته، وطال انتظاره في موقف البلاء سنين، وهو صابر ومصابر، ولم يضجر، ولم يتكثر من الأنين والشكوى. أما إسماعيل فقد كان ابتلاؤه لساعة من الزمن، ثم انجلى الكرب وزالت المحنة.. ومن جهة أخرى، فإن إسماعيل كان- في مواجهة هذا الابتلاء ما يزال غلاما، لم يقع في نفسه، وقوعا واضحا كاملا أثر هذا الفعل الذي هو مساق إليه.. ولهذا كانت البلوى، أو كان الجانب الأكبر منها واقعا على أبيه إبراهيم، ومن أجل هذا كان حسابها مضافا إلى إبراهيم، وإن كان لإسماعيل حسابه، وهو حساب وإن قلّ- بالإضافة إلى أبيه- هو شيء عظيم رائع، ترجح به موازينه في الصابرين من عباد اللّه.. وذلك على حين كان أيوب في دور الرجولة، وفى حال لبس فيها الشباب، والصحة، وذاق حلاوة الغنى، وعرف طعمها، فكان انتزاع هذا كله منه، أشدّ وقعا وأمرّ طعما مما لو وقع عليه ابتداء.هذا وقد ذكر مع إسماعيل إدريس وذو الكفل.أما إدريس فهو ممن ذكرهم اللّه من أنبيائه، كما يقول سبحانه: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقًا نبيًّا}: (56: مريم).. ولم يذكر القرآن عن إدريس أكثر من أنه كان نبيا وكان من الصابرين.. فلم يكن له في القرآن قصة كقصة، صالح، وهود، وإبراهيم، ولوط، وموسى، وغيرهم من رسل اللّه..وأما ذو الكفل فلم يذكر إلا في هذا الموضع، وقد اجتمع مع النبيين الكريمين: إسماعيل وإدريس، وشاركهما في صفة الصبر.. كما يقول سبحانه {كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ}..وقد ذهب معظم المفسرين مذاهب شتى في {ذى الكفل} وكان أضعف الآراء عندهم فيه، أنه نبى، من أنبياء اللّه..والرأى عندنا واللّه أعلم- أنه نبىّ، وأن أبرز صفة في حياته كانت صفة الصبر.. أما رسالته، وأما قومه، فشأنه في هذا شأن إدريس، الذي لم يذكر له القرآن رسالة ولا قوما.. كما أننا نرجح أنه زكريا- عليه السلام- لأنه هو الذي كفل مريم، كما يقول اللّه تعالى: {وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا} وتسأل: ما حكمة ذكر إدريس وذى الكفل، هذا الذكر الذي لا يحوى إلا اسميهما دون أن تلحق بما قصة تستملى منها العبرة والعظة؟والجواب على هذا- واللّه أعلم- أن ذكرهما في القرآن الكريم لم يكن مساقا للعبرة والعظة، ففيما حدث به القرآن من قصص الأنبياء أكثر من عبرة وعظة.. وإنما كان ذكرهما تكريما لهما، وحفظا لاسميهما الكريمين على الزمن، ونظمهما في عباد اللّه المصطفين من أنبيائه ورسله..وفي هذا تحقيق لأمرين:أولهما: ما يجده الأحياء الذين يشهدون هذا الحديث، من إحسان اللّه سبحانه وتعالى إلى المحسنين من عباده، بعد أن يتركوا هذه الدنيا، وذلك برفع ذكرهم، وتخليد آثارهم، وفى هذا ما يغرى بالإحسان، وبتمجيد المحسنين..وثانيهما: ألا يحرم هذان النبيان نصيبهما من دعاء المؤمنين على امتداد الأزمان، حيث يصلّى المصلون على أنبياء اللّه، وحيث يذكرهم الذاكرون واحدا واحدا. اهـ.
وكونُ الله تعالى أرحم الراحمين لأن رحمته أكمل الرحمات لأن كل من رحِم غيرَه فإما أن يرحمه طلبًا للثناء في الدنيا أو للثواب في الآخرة أو دفعًا للرقة العارضة للنفس من مشاهدة من تحق الرحمة له فلم يخل من قصد نفع لنفسه، وإما رحمته تعالى عباده فهي خلية عن استجلاب فائدة لذاته العلية.ولكون ثناء أيوب تعريضًا بالدعاء فرع عليه قوله تعالى: {فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر}.والسين والتاء للمبالغة في الإجابة، أي استجبنا دعوته العُرْضية بإثر كلامه وكشفنا ما به من ضرّ، إشارة إلى سرعة كشف الضرّ عنه، والتعقيب في كل شيء بحَسَبه، وهو ما تقتضيه العادة في البُرء وحصوللِ الرزق وولادة الأولاد.والكشف: مستعمل في الإزالة السريعة.شبهت إزالة الأمراض والأضرار المتمكنة التي يعتاد أنها لا تزول إلا بطول بإزالة الغطاء عن الشيء في السرعة.والموصول في قوله تعالى: {ما به من ضر} مقصود منه الإبهام.ثم تفسيره بـ مِن البيانية لقصد تهويل ذلك الضرّ لكثرة أنواعه بحيث يطول عدّها.ومثله قوله تعالى: {وما بكم من نعمة فمن الله} [النحل: 53] إشارة إلى تكثيرها.ألا ترى إلى مقابلته ضدها بقوله تعالى: {ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون} [النحل: 53]، لإفادة أنهم يهرعون إلى الله في أقل ضرّ وينسون شكره على عظيم النعم، أي كشفنا ما حلّ به من ضرّ في جسده وماله فأعيدت صحته وثروته.والإيتاء: الإعطاء، أي أعطيناه أهله، وأهل الرجل أهل بيته وقرابته.وفهم من تعريف الأهل بالإضافة أن الإيتاء إرجاع ما سلب منه من أهل، يعني بموت أولاده وبناته، وهو على تقدير مضاف بيّن من السياق، أي مثل أهله بأن رُزق أولادًا بعدد ما فَقَد، وزاده مثلهم فيكون قد رزق أربعة عشر ابنًا وست بنات من زوجه التي كانت بلغت سنّ العقم.وانتصب {رحمةً} على المفعول لأجله.ووصفت الرحمة بأنها من عند الله تنويهًا بشأنها بذكر العندية الدالة على القرب المراد به التفضيل.والمراد رحمة بأيوب إذ قال: {وأنت أرحم الراحمين}.والذكرى: التذكير بما هو مظنة أن ينسى أو يغفل عنه.وهو معطوف {على رحمة} فهو مفعول لأجله، أي وتنبيهًا للعابدين بأن الله لا يترك عنايته بهم.وبما في {العابدين} من العموم صارت الجملة تذييلًا.{وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ}.عطف على {وأيوبَ} [الأنبياء: 83] أي وآتينا إسماعيل وإدريس وذا الكفل حُكمًا وعلمًا.وجُمع هؤلاء الثلاثة في سلك واحد لاشتراكهم في خصيصية الصبر كما أشار إليه قوله تعالى: {كل من الصابرين}.جرى ذلك لمناسبة ذكر المثل الأشهر في الصبر وهو أيوب.فأما صبر إسماعيل عليه السلام فقد تقرّر بصبره على الرضى بالذبح حين قال له إبراهيم: {إني أرى في المنام أني أذبحك} فقال: {ستجدني إن شاء الله من الصابرين} [الصافات: 102]، وتقرر بسكناه بواد غيرِ ذي زرع امتثالًا لأمر أبيه المتلقَى من الله تعالى، وتقدمت ترجمة إسماعيل في سورة البقرة.وأما إدريس فهو اسم أُخْنُوخ على أرجح الأقوال. وقد ذكر أُخنوخ في التوراة في سفر التكوين جدًّا لنوح. وتقدمت ترجمته في سورة مريم ووصف هنالك بأنه صدّيق نبيء وقد وصفه الله تعالى هنا فليعدَّ في صف الصابرين.والظاهر أن صبره كان على تتبع الحكمة والعلوم وما لقي في رحلاته من المتاعب. وقد عُدت من صبره قصص، منها أنه كان يترك الطعام والنوم مدة طويلة لتصفو نفسه للاهتداء إلى الحكمة والعلم.وأما ذو الكِفْل فهو نبيء اختُلف في تعيينه، فقيل هو إلياس المسمّى في كتب اليهود إيليا.وقيل: هو خليفَة اليَسع في نبوءة بني إسرائيل.والظاهر أنه عُوبديا الذي له كتاب من كتب أنبياء اليهود وهو الكتاب الرابع من الكتب الاثني عشر وتعرف بكتب الأنبياء الصغار.والكفْل بكسر الكاف وسكون الفاء، أصله: النصيب من شيء، مشتق من كَفلَ إذا تعهد.لقب بهذا لأنه تعهد بأمر بني إسرائيل لليسع.وذلك أن اليسع لما كبُر أراد أن يستخلف خليفة على بني إسرائيل فقال: من يتكفل لي بثلاث أستخلفه: أن يصوم النهار، ويقوم الليل، ولا يغضب.فلم يتكفل له بذلك إلا شاب اسمه عُوبديا، وأنه ثبت على ما تكفل به فكان لذلك من أفضل الصابرين.وقد عُد عوبديا من أنبياء بني إسرائيل على إجمال في خبره انظر سفر الملوك الأول الإصحاح 18.ورؤيا عوبديا صفحة 891 من الكتاب المقدس.وروى العبري عن أبي موسى الأشعري ومجاهد أن ذا الكفل لم يكن نبيئًا.وتقدمت ترجمة إلياس واليسع في سورة الأنعام.وجملة {أنهم من الصالحين} تعليل لإدخالهم في الرحمة، وتذييل للكلام يفيد أن تلك سنة الله مع جميع الصالحين. اهـ.
|